المسجد الجامع بمدينة قرطبة . الاندلس " أسبانيا حاليا "
أولا : موقع مدينة قرطبة ومسجدها الجامع مدينة قرطبة
تقع مدينة قرطبة جنوب مملكة اسبانيا على الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير . ويقع جامع قرطبة فوق بقعة صخرية بجنوب المدينة وعلى مقربة من القنطرة القديمة المقامة على نهر الوادي الكبير يعتبر جامع قرطبة من أهم واكبر المساجد الجامعة الباقية وأكثر المساجد أهمية معمارية وزخرفيه .
الجامع في عصر الولاة
عندما افتتح المسلمون مدينة قرطبة سنة 93 هجريا اختاروا كنيستها الكبرى المعروفة باسم ( بشنت بنجنت ) التي كانت تقع داخل المدينة نفسها بالقرب من سورها الجنوبي لإقامة مسجدهم الجامع فتقاسموا هذه الكنيسة مع نصارى قرطبة وأقاموا المسجد الذي اتسم بالبساطة.
بمرور الأيام زاد عدد المسلمين وأصبحت ظلة القبلة لا تسعهم فجعلوا يعلقون فيها سقيفة اثر سقيفة من جهة الشمال وليس من جهة القبلة وكان ارتفاع السقائف يقل تدريجيا لارتفاع مستوى الأرض مما أثار مشكلة بسبب عدم تمكين المصلين من الاعتدال في النهوض لتقارب السقف من مستوى الأرض . وظل الأمر على ذلك طوال عصر الولاة إلى أن دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام (الملقب بعبد الرحمن الداخل )أو ب(صقر قريش ) بلاد الأندلس وقام بتأسيس دولة بني أمية في الأندلس سنة 138 هجريا وذلك بعد أن قضى العباسيون على دولتهم بالمشرق واتخذ قرطبة دارا لإمارته ولم يستطع في بداية عهده أن يؤسس مسجد جامع جديد إذ كان مشغولا بتوطيد أركان دولته الجديدة إلا انه قرر بعد ذالك هدم الكنيسة والجامع معا فاشترى ارض الكنيسة من نصارى قرطبة مقابل أن يسمح لهم ببناء كنيسة أخرى خارج الأسوار ودفع لهم 80 ألف دينار .
جامع قرطبة في العصر الاموى
تاريخ تشييد الجامع شرع عبد الرحمن الداخل ( 138-172 هجريا ) في هدم الكنيسة والمسجد القديم معا سنة 168 هجريا وقام ببناء المسجد الجديد واكتملت جدرانه سنة 170 هجريا أول من شيد المسجد القائم حاليا هو عبد الرحمن الداخل وكان المسجد ذو تخطيط مستطيل يشتمل على ظلة واحدة (ظلة القبلة ) ويتقدمها صحن مكشوف الوصف المعماري للجامع ..
كان المسجد في عهد عبد الرحمن الداخل يتكون من ظلة واحدة هي ظلة القبلة وصحن أوسط مكشوف وكانت ظلة القبلة تتكون من تسع بلاطات بعمق اثني عشر اسكوبا ( رواقا ) تسير عقودها الاثنى عشر عمودية على جدار القبلة . وقد عهد عبد الرحمن الداخل إلى عبد الله بن صعصعة بن سلام ( صاحب الصلاة في قرطبة ) سنة172 هجريا بأن يغرس صحن المسجد بأشجار البرتقال والليمون والنارنج أطلق على هذا الصحن في أسبانيا اسم "صحن البرتقال" وأصبح سنة متبعة بعد ذلك في مساجد الأندلس .
توفى عبد الرحمن الداخل سنة 172 هجريا قبل أن ينتهي من بناء الجامع وأتمه من بعده ابنه هشام الراضي (172-180 هجريا ) فشيد مئذنة بالمسجد بالجهة الشمالية الغربية من الصحن كما أمر ببناء ميضأة شرق الجامع . التوسعات التي تمت في جامع قرطبة
أولا :
توسعة الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ( عبد الرحمن الأوسط ) " 206 -238 هجريا "
الزيادة الأولى ( سنة 218 هجريا ) ....... ضاق المسجد بالمصلين في عهد عبد الرحمن الأوسط فأمر بتوسعته وأضاف إلى ظلة القبلة بلاطتان واحدة في شرقها والأخرى في غربها فأصبحت ظلة القبلة تتكون من إحدى عشر بلاطة بعد أن كانت تسع بلاطات . كما أضاف للصحن ظلتان احدهما شرقية والأخرى غربية وكل منهما تتكون من رواق واحد وفى امتداد البلاطتين الجديدتين . الزيادة الثانية ( سنة 234 هجريا ) ..
قام عبد الرحمن الأوسط بهدم جدار القبلة القديم فيما بين الدعامات وتمت زيادة المسجد من جهة القبلة بإضافة ثمانية اساكيب ( أروقة ) " اى أضاف ثمانية أعمدة لكل بلاطة من بلاطات ظلة القبلة " فأصبحت ظلة القبلة تتكون من إحدى عشر بلاطة بعمق عشرين اسكوبا تسير عقود بائكتها عمودية على جدار المحراب وشيد بجدار القبلة محرابا جديدا بدلا من محراب عبد الرحمن الداخل واتبع معمار عبد الرحمن الأوسط نفس نظام العقود المتراكبة ( على مستويين ) المتبعة في الجامع القديم .
كما أضاف عبد الرحمن الأوسط بلاطة في الجهة الشمالية الغربية فأصبح المسجد يتكون من صحن أوسط مكشوف يحيط به أربع ظلات وأصبح للمسجد سبعة أبواب ثلاثة في الجانب الشرقي وثلاثة في الجانب الغربي وباب واحد في الجهة الشمالية الغربية . وتحمل البائكات عقود متراكبة " من مستويين " العقود السفلية على شكل حدوة فرس والعقود العلوية نصف دائرية واتخذت صنجات العقود نظام المشهر وسقف المسجد يأخذ الشكل الجمالونى من الخارج أما من الداخل فهو عبارة عن ألواح خشبية مصفوفة عرضا ومثبتة في عوارض خشبية .
مما لا شك فيه أن الأمير عبد الرحمن الأوسط استعان بعرفاء ومهندسين سوريين في بناء هذا الجامع وتجلت التأثيرات السورية في :
- تعامد البلاطات على جدار القبلة كما في المسجد الأقصى وأيضا موقع المئذنة بالجدار الشمالي على سمت المحراب كما في المسجد الاموى .
-استخدام عقود على هيئة حدوة فرس كما في المسجد الاموى والتي أصبحت سمة من سمات العمارة الأندلسية بعد ذلك وأصبحت علما عليها .
- استخدام مستويين من العقود لرفع السقف كما في المسجد الأقصى والمسجد الاموى .
- استخدام الأسقف الجمالونية التي تمتد بامتداد البلاطات كما في المسجد الأقصى والمسجد الاموى . توفى الأمير عبد الرحمن الأوسط قبل أن تتم زخرفة توسعته فأتمها من بعده ولده وحفيديه . فقام ولده الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 –273هجريا ) بإتمام زخرفته سنة 241 هجريا ثم أقام سنة 250 هجريا مقصورة حول المحراب وجعل لها ثلاثة أبواب وتعتبر الأولى من نوعها في مساجد الأندلس .
وقد سجل الأمير محمد أعماله بالجامع حول عقد باب الوزراء ( باب سان استيبان ) وهو من نوع حدوة الفرس ونصه " بسم الله الرحمن الرحيم / أمر الأمير / أكرمه الله / محمد بن عبد الرحمن ببنيان ما حكم به من هذا المسجد وإتقانه / وجاء ثواب الله عليه وذخره به / فتم ذلك سنة إحدى وأربعين ومائتين على بركة الله وعونه / مسرور ونصر فتياه " كما قام كل من ولدى الأمير محمد وهما : الأمير المنذر ( 273-275 هجريا ) : أقام بيت المال بصحن الجامع على غرار الجامع الاموى بدمشق وجامع عمرو بن العاص بمصر . الأمير عبد الله ( 273-300 هجريا ) : بعمل سباط يصل ما بين القصر والجامع من جهة الغرب .
الجامع في عهد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية والملقب ب(عبد الرحمن الناصر ) " أول من تلقب بالخلافة من الأمويين في بلاد الاندلس" رأى الخليفة عبد الرحمن الناصر صغر مئذنة الأمير هشام الراضي بالنسبة لمساحة الجامع فهدمها وأمر ببناء مئذنة جديدة مربعة المسقط واستغرق بنائها ثلاثة عشر شهرا وكانت مئذنة هشام بدرج واحد فجعل لمئذنة الناصر درجين بينهما فاصل بالبناء فلا يلتقي المؤذنان الصاعدان فيها إلا بأعلاها .
كما قام الخليفة الناصر فيشهر ذي الحجة سنة 346 هجريا بترميم واجهة ظلة القبلة المطلة على الصحن وأصلح باب سان استيبان (مدخل الوزراء) وسجل هذا التجديد على لوحة بجوار المدخل إلى البلاطة الوسطى بصيغة :
"بسم الله الرحمن الرحيم ... أمر عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين الناصر لدين الله - أطال الله بقاه - ببنيان هذا الوجه وإحكام إتقانه تعظيما لشعائر الله و محافظ على حرمة بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولما دعاه على ذلك من تقبل عظيم الأجر وجزيل الذخر مع بقاء شرف الأثر وحسن الذكر فتم ذلك بعون الله في شهر ذي الحجة سنة ستة وأربعين وثلثمائة على يد مولاه ووزيره وصاحب مبانيه عبد الله ابن بدر. عمل سعيد ابن أيوب"
ثانيا :
توسعة جامع قرطبة في عهد الخليفة الحكم المستنصر ابن الخليفة عبد الرحمن الناصر (350- 366هجريا) قام بتوسيع مساحة ظلة القبلة من جهة القبلة (الجنوبية الشرقية) فهدم جدار القبلة قيما بين الدعامات وأضاف لكل بائكة عمودية من بوائك البلاطات القديمة 12 عمود وظلت البلاطة الوسطى أكثر البلاطات اتساعا . وجعل أول بلاطة من جهة المحراب مقسمة إلى حجرات مستطيلة خصصت لحفظ أموال الاحباس (الوقف) والمصاحف وأدوات خدمة الجامع . وخصص الحجرة اليمنى على جانب المحراب للمنبر الخشبي الذي صنعه الحكم للجامع واستغرق صنعه 7 سنوات وكان يرتكز على عجل وكان يوضع في هذه الحجرة بعد صلاة الجمعة واتخذ المنبر من خشب الساج والأبنوس وكان يتكون من 9 درجات وعدد حشواته 36000 حشوة .
تضمنت هذه التوسعة 4 قباب :
واحدة في مدخل زيادة البلاطة الوسطى وهى قبة كبيرة مثقبة ذات عقود متقاطعة لإدخال الضوء لظلة القبلة لذا تسمى " بقبة الضوء " والثانية تعلو منطقة مربع المحراب وهى قبة صغيرة مفصصة ترتكز على 8 عقود متقاطعة وزخرف باطن هذه القبة وجدار المحراب بالفسيفساء الزجاجية المذهبة . أما القبتان الثالثة والرابعة على جانبي قبة المحراب فترتكز كل قبة على مستويين من العقود السفلى عقود مفصصة متقاطعة والعلوي على شكل حدوة فرس . دخلة المحراب : هي دخلة معقودة بعقد حدوة فرس يرتكز على عمودين ذات تيجان كورنثية وتحيط بدخلة المحراب أشرطة كتابية بالخط الكوفي البارز تتضمن تسجيلا لأعمال الخليفة الحكم المستنصر بالجامع .
" بسم الله الرحمن الرحيم أمر عبد الله الحكم أمير المؤمنين أصلحه الله مولاه وحاجبه جعفر بن عبد الرحمن رحمه الله بعمل هذه الفسيفساء في البيت المكرم فتم جميعها بعون الله سنة أربع وخمسين وثلثمائة " يعلو هذا النص بائكة من سبعة عقود ثلاثية الفصوص ترتكز على أعمدة رخامية صغيرة . ثالثا : توسعة المنصور بن أبى عامر ( وزير الخليفة هشام الثاني بن الحكم المستنصر ) ضاق الجامع بالمصلين فقام المنصور بن أبى عامر وزير الخليفة هشام الثاني " المؤيد بالله " بتوسعته من الناحية الشرقية وذلك عام 377 هجريا فقام بشراء الدور التي كانت موجودة بالناحية الشرقية وعوض أصحابها بالمال والعقار.
( لم يوسعه من ناحية القبلة لان جدار القبلة كان قريبا من نهر الوادي الكبير ولم يوسعه من ناحية الغرب لان قصر الخليفة كان يجاور الجامع من الناحية الغربية ) استمر العمل بالتوسعة سنتين ونصف وعمل المنصور فيها بنفسه كما عمل بها أيضا اسري المسيحيين وقد جعل من نواقيس النصارى التي غنمها ثريات في زيادته بالجامع . وقام المنصور بهدم أبواب الجامع بالجهة الشرقية وكذلك الضلع الشرقي للصحن قبل أن يبدأ في توسعته ليصلهم بتوسعته وأقام في صحن التوسعة خزانا للمياه . تبلغ التوسعة الجديدة نصف مساحة الجامع تقريبا حيث أضاف ثمان بلاطات جديدة عمودية على جدار المحراب فأصبح المسجد يتكون من صحن أوسط مكشوف يحيط به أربع ظلات أكبرها وأعمقها ظلة القبلة التي تتكون من 19 بلاطة عمودية على جدار المحراب أما الظلات الثلاث الأخرى فكل ظلة تتكون من بلاطة واحدة .
بعد سقوط مدينة قرطبة على يد فرناندو الثالث ملك قشتالة سنة 636 هجريا حول الأسبان المسيحيين الجامع إلى منشات كنسية وبنيت كنائس صغيرة في أماكن مختلفة بالجامع شوهت البناء القديم . وعلى الرغم من تشييد هذه المنشات القوطية الطراز بداخل الجامع إلا أن الجامع ما زال يحتفظ بهندسته وفنونه المعمارية والزخرفية مما دعي الحكومة الاسبانية سنة 1882 مأن تعلن رسميا أن الجامع أثرا قوميا وقامت سنة 1909 م بترميم واجهات الجامع من الخارج ومازالت تعطيه نصيبا وافرا من عنايتها حتى اليوم ...
ليست هناك تعليقات: